بينما كنت أتنظر أنا وأبنتي في أحدى إشارات المرور، رأيت مجموعة من أطفال الشوارع على بعد خطوات من عربتنا. بالصدفة ذهبت عيني إلى أحدهم ورأيته وهو يبصق على الأرض ويمسح فمه بيده، وباليد الاخرى يمسك بحزم من النعناع الأخضرالذابل ، يبيعها في الإشارات.. وبأسرع مما أستوعب، رأيته يتقدم نحوي وقد قررأن يبيعني بعضاً من النعناع..
مدفوعة بإحساس من القرف منه ، أمتدت يدي لا إرادياً تتحسس موقع زر الزجاج لأغلقه وأتجنب محاولته للتقرب مني، ولكن الوقت لم يسعفني . مد رأسه من خلال الزجاج النصف مغلق قأئلاً " خدي مني " قلت له "شكراً مش عايزه" وأنا أكمل إغلاق الزجاج بالفعل . مد يده في طريق الزجاج فنزعت يدي من على الزر، فلم يكن من الممكن أن أخاطر بغلق الزجاج على يده. إلا أن تصرفه هذا أثارني واعتبرت إصراره هذا نوعاً من التحرش. وما أن أزاح يده ، حتى سارعت بإغلاق الزجاج ، فأخذ يدق على الزجاج، وسمعت صوته من خلف الزجاج يقول: " أنا جعان... إدينى من اللي بتاكله ده" وهو يشير الى البسكوت بالشيكولاته الذي كانت تأكله أبنتي.
تحركت الإشارة قليلاً ، وتحركت بالعربة ببطء ، فأخذ يتعلق بالعربة ولم أصدق نفسي ساعتها من ردة فعله ومدى تهوره، فأخذت أنهره ثانية من خلف الزجاج ليتركنا في حالنا. وتحركت بالعربة مرة اخرى وأدرك هو أنه لن يصل إلى شئ، فأفلت نفسه .
لا أعرف لماذا توقفت كثيراً عند هذا الحادث العارض أتأمل وأفكر فيه. والأغرب من ذلك أنني بشكل ما وجدت تشابه بين حال هذا الصبي الفقير البائس وحال كثير من الناس المحيطين ومن نفسي في بعض الأحيان. ووجدتني أفكر في إنه إذا كان الفقروالجوع المادي هم سبب تسول هذا الصبي. فماذا نتسول نحن؟ و أي نوع من أنواع الفقر نعاني ؟
أدركت أنه هناك أنواع أخرى من الفقر تعيش بيننا ولكن يصعب علينا التعرف عليها ، ذلك لأنها تتواجد في أشكال غير ملموسة متنكرة فلا نلتفت اليها. أرى الآن الخيط الجامع بينها بوضوح يظهر في عدم الشعوربأي لذه للأشياء، عدم الرضا عن الحال أوعن النفس، والرغبة دائماً في المزيد. أرى أناس وحيدة من الداخل برغم أنهم محاطون بالناس في كل دقيقة وتراهم ويقولون أصعب أنواع الوحدة هي التي تشعرها وأنت في وسط الناس. والسعادة عندهم ، سعادة وقتية ، تنتهي بمجرد إنتهاء واقتناء الاشياء المباشرة... فلا يبقي منها اثر فيظلوا جائعين.
أسترجع الآن مختلف "ماركات" الفراغ فأراها كالقلادة معلقة على الصدور . تتدلى من الرقبة وتمر بالقلب والمعدة والضلوع ، يكادالقفص الصدري أن يضيق بها. وأينما حلت ، حل على صاحبها الشعور بعدم الراحة لأنها تحرك فيه إحساس بجوع لا يشبع ولايمتلئ لأنه من الأصل لا يعرف ماذا يغذيه.
ومع إحساس الجوع ، يزداد الياس وفقد الإتجاه، فتجد حاملي قلادات الفراغ يلهثون في كل إتجاه محاولين سد هذا الفراغ بمختلف الطرق . إلا انهم لا يتوقفوا ليتساءلون : ما هو سبب هذا الشعور؟ أراهم مثل صبي الإشارة الصغير جائعين متعبين ، يحاولون سد جوعهم بأي ثمن. إلا أن طفل الاشارة اليائس أحسن حالاً من كثيرين لأنه على الأقل يعرف ماذا الذي يشبعه.
فما هي أسباب فقر الأغنياء الفقراء؟ في رأيي أن فقرالروح يحدث عندما يهمل الإنسان نفسه فيغفل ما يشبعها و يغذيها . فلكل نفس غذائها الخاص والمختلف الذي قد لا ندركه خاصة مع مجتمعاتنا التي تميل الى الجماعية والتقليد و بالتالي النمطية في كل شئء بدءاً من التعليم والأسرة المجتمع.
لذلك تجدنا نعيش في القوالب التي صنعها المجتمع والتي تستخدم كمعايير لتقييم نجاح وقيمة الأنسان. فاذا كنت متعلماً ، عندك وظيفة ، عندك أسرة وفرص للترقي وجني الاموال ، إذن أنت ناجح . .إذا كنت تقتني الكثير من السلع الاستهلاكية وتبالغ في الاهتمام بمظهرك ،إذن فانت "حد نضيف" وإذا كان العكس "فأنت أي كلام " وأمثله أخرى كثيرة للسطحية التى طالت حياتنا والتي نحكم من خلالها على الأشياء والأشخاص . ولكن هل تتوقف لتسأل نفسك هل أنت راضي؟ هل انت سعيد؟ هل عرفت نفسك ؟ هل عرفت ما يشبعك؟ لا.... أنت تفعل كما يفعل الأخرين . واقف في نفس الطابور ، منتظر نفس الأشياء.
أذن فعلينا الا نفكر فقط فيما يشغل وقتنا ، بل فيما يملأ روحنا ، يشبعها ويقويها. علينا أيضاً أن نتأكد أن المدخلات على حياتنا هي أشياء ذات معنى تطول روحنا وليست أشياء سطحية ظاهرية نخلعها كما نخلع ملابسنا عندما نذهب للنوم وذلك لأن جوع الروح هي أخطر حالة قد يصل اليها الإنسان فيتحول الى مخلوق ضعيف بائس يقبل بأي شئء يخطفه ليشبع به جوعه. هي حالة مخيفة لا يبقي للإنسان فيها شيئاً للحفاظ عليه والأخطر من ذلك أنها تخيف الآخرين. فمن منا سيمد يده لغريق قد يسحبه معه وينزل به الى القاع..
أميرة المسيرى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق