أغمض عينيك .. أرجع رأسك للوراء وحاول أن تتذكر المناسبات السعيدة في حياتك.. أراك تبتسم في خيالى
ماذا تتذكر على وجه التحديد ؟؟ أوقات نجاحك في المدرسة وفي الجامعة ؟ يوم زواجك؟ يوم ولادة احد أبنائك؟ يوم حصولك على ترقية أو حصولك على وظيفة حياتك ؟ أو يوم تحقيقك لأي هدف أو انجاز صغير أو كبير ؟؟
شخصياً اتذكر حفلة تخرجي من الجامعة، قاعة المؤتمرات.. الأضواء، موسيقي مارش النصر لأوبرا عايدة و القاعة و صخب الزملاء ... والأهل يصفقون .. واتذكر يوم زفافي وأنا أتأبط زراع والدي وانزل السلالم حيث الحضور في الانتظار ..... الأنوار والسلالم المزدانة والورود الجميلة الشكل والرائحة .. وايضاً الكل مبتسمون فرحون .. وأتذكر يوم ولادة ابنتي ... ابنتي التي جعلتني اماً وجعلت والدي جدوداً... و ايضاً الكل فرحون مستبشرون ... و فخورون.
عذراً ... طلبت منك ان تغلق عينيك لتسترجع بعضا من ذكرياتك .. ولكن هائنذا أنجرف وراء ذكرياتي الشخصية .
الآن ... أغلق عينيك مرة اخرى وحاول أن تتذكر بعضا من لحظاتك الصعبة يوم أن أخطأت بقصد أو بدون قصد ... مثلاً يوم رسوبك في أحد الامتحانات ، يوم أخذت سيارة اهلك من وراء ظهرهم وعملت بيها حادثة كبيرة وكنت مرعوب من ردة فعل اهلك أو على الأقل متوتر بسبب غلطتك ..أو يوم أن اعطاك اهلك أو أحد اصدقائك نصيحة ولم تأخذ بها وتسبب ذلك في وقوعك في مشاكل كبيرة.
الآن افتح عينيك وحدثني عن أهلك وأصدقائك.. اتراهم لا يزالوا في مخيلتك يبتسمون ..... يربتون على كتفك .. ترى هل لا يزالوا فخوريين ؟؟ ... أشك ... اراهم على العكس يلومون أو من الاصل غير موجودين .. وأكثرهم رحمة بك لن يقول لك كلمة أقل من " أنا مش قولتلك.... بس انت تحب تعمل اللى في دماغك... أشرب بأه يا حلو "
هل يبدوا هذا قاسياً ؟؟ مبالغاً فيه ؟؟؟ ... ولكنه حقيقي... ولسبب بسيط ... يوم أن تتوقف عن النجاح أو عن التصرف في حدود المقبول من وجهة نظر المحيطين لن تكون مقبولأ.. لن تكون مصدر فخر للمحيطين في مجتمع احترف الحب المشروط والثقافة التي تساند وتصفق فقط للحظات النجاح وتلعن اصغر صورالاخفاق... ومع انك نفس الشخص بشحمه بلحمه بذكاؤه بقدراته ولكن النجاح له زهوة والاخفاق له ... غصه ... لن يشاركك فيها الا نفسك .
نعيش هذه الثقافة كل يوم ونعيد توليدها في ابناءنا .... فتجد لسان حالنا مع أولادنا.. " أسمع الكلام يا حبيبي عشان أحبك" ... " أنجح و اتشطرعشان أكون فخور بيك " أو "فلان ابن طنط فلانه جاب نمر أحسن منك" ... وكأن الحب مشروط بالانجاز ، بالذكاء، بالنجاح... وماذا عن محدودي الذكاء والقدرات ؟؟؟ و ماذا عن الكبوات .. أو ليست الحياة الطبيعية سلسلة من النجاح والفشل ؟؟
سوال يحضرني الآن وهو عرض جانبي من اعراض الحب المشروط في ثقافة تضغط علينا لننال الحب و الاحترام و التقدير ونتجنب الالم والنبذ ... سؤالي ... لنفسي وللجميع .. في مثل هذا الضغط والشرطية .. هل نفعل الأشياء الصحيحة للأسباب الصحيحة ؟؟؟ " الطفل اللى بيعمل الصح عشان ماما تحبه " أو من اجل تجنب العقاب... هيعمل كل حاجة بعد كده كل حاجة "عشان المجتمع يحبه " ... بصرف النظر عن راحته واقتناعه .
أعتقد ان أصدق صور الحب الغيرمشروط هو حب الطفل الصغير لأمه وهي أول يد تمتد له لتعطي وتحب وترعي .. هذا الطفل يتلقي كل هذا العطاء فيتعلم أن يحب قبل أن يتعلم أن يقارن أو يكون التوقعات . يحب أمه قبل أن يكون مفاهيمه عن الجمال ولذلك يراها الأجمل حتى وأن كان هذا غير حقيقي. ويكبر الطفل ويرى الأمهات الآخريات ويراجع موقفه ... لكنه يظل يراها جميلة بصورة أكثر واقعية ويظل يحبها .... لماذا ؟؟؟ لانه تعلم أن يحب اولاً....
صورة اخري من صور الحب الغير مشروط الخالي تماماً من التوقعات هي علاقة ألاهل بأولادهم من ذوي الاعاقة ، نراهم منذ اليوم الأول والعلاقة لا تحركها أي توقعات ، فتراهم يحبونهم على ضعفهم وبرغم قدراتهم المحدودة حباً كبيرا لا يتذبذب بقدر الانجاز أو الاخفاق، أو بقدرالأنصياع للأوامر وتنفيذ التوصيات . ونراهم لا يتوقعون شيئاً منهم. فقط يحبونهم ويعطونهم بغير شرط وغير توقع لعودة الاستثمار .. استثمار الرعاية والوقت والجهد والعطاء . في مثل هذه الظروف يضبط الأهل توقعاتهم من أولادهم الى أقل القليل ويكونوا مستعدين لتشجيع أصغر انجازاتهم.
واذا كان الاهل يشجعون اطفالهم الضعفاء من محدودي القدرات ... ماذا عن الأطفال مكتكملي القدرات .. أعتقد انه من السهل للاهل مساندتهم بنفس القدر ... فقط اذا وضعوا عامل المقارنة والتوقعات على جنب واستعدوا نفسيا ان حياتهم وحياة اولادهم سوف تشهد اخفاقات كما ستشهد نجاحات وهو توقع واقعي وانساني جداً .
عندما كنا صغاراً كنا نضحك عندما نسمع عن ابن رسب في الأمتحان فأخذه أبوه في رحلة ليرفه عنه .. بمحدودية فكرنا في هذا الوقت كنا نجد هذا التصرف غير مقبول من الأب ويشجع الابن على الاستهتار ... و لكن اذا دققنا النظر سوف نجد تصرفه هذا كأنه يقول .. " يا أبني أنا أحبك وأساندك سواء نجحت أو أخفقت" .. " أو " يا أبني لن تعدم كل الحقوق أو بعضاً من الترفيه لمجرد غلطة .. أنا ايضاً أساندك وأشاركك ألم اخفاقك .. "
طبعا كلامي ليس دعوة الى تشجيع الناس على اهمال واسقاط المسئوليات فأنا من أشد المعجبين بمدأ الحقوق والمسئوليات كاطار للتربية والمعاملات في المجتمع ككل . ولن اتردد في معاقبة ابن مهمل عن عمد مرارا و تكرارا بما يضر بمصلحته .. ولكن أنا مع الرأفة بأقرب الأقربين لنا واعطاؤهم حبنا الغير مشروط ومساندتهم في الفشل واوقاتهم الصعبة لأن العطاء الاكبر والأصعب من وجهة نظري هو مساعدة الناس على تخطي الكبوات ... لنستحق بعد ذلك مشاركتهم نجاحهم .
أميرة المسيري