اليوم أريد ان أسترجع هذا الجزء من حياتي . أريد أن أعود بذاكرتي لأنفض التراب عن الصندوق الأسود الذي يحوي كل الذكريات .... .. مدرستي وحشتني.
يالا بينا ... يالا يالا . يالا يالا بينا... دي الشمسوسه طالة طالة وبتنده علينا. "
دي الأغنية اللى أنا سامعاها وأنا بادخل من باب المدرسة الأمامي . يلاقيني على الباب عم حسين بالجلابية البيضاء بترحاب ويقولي أتفضلي .....النهارده يوم الأحد . الحصة الأولي والثانية رسم .
نصطف كلنا في طابور لنذهب الى غرفة الرسم ذات الواجهة الزجاجية المطلة على الحديقة الأمامية . ترابيزات كبيرة تحيطها مقاعد طويلة كافية لتستوعبنا. الحوائط مزدانة بالأعمال الفنية من أنتاجنا نحن والتلاميذ الآخرون. مواد فنية ، خامات والوان . نجلس وتحدثا ميس جيهان. " النهارده يا أولاد هانعمل حاجة جديدة . أنا معايا شريط جديد للأطفال عجبني أوي وعاوزاكو تسمعوه. هنشغل الشريط ده دلوقتي وهاترسمموا وانتو بتسمعوا . ما عندناش موضوع محدد. اللي يجي على بالكوا أرسموه."
وأدارت ميس جيهان الشريط وكانت أول مرة أسمع هذه الأغاني وأول مرة أرسم على خلفية موسيقية .أذكر منظر حديقة المدرسة في الصباح الباكروالشمس المشرقة تتخلل الزجاج المزدان بالرسوم الزيتية من رسم ميس جيهان. أكذر دفئ الشمس ودرجة سطوع الشمس المعتدلة المريحة والمهدئة للنفس. و يا ألله كم هي جميلة هذه الاغاني . نقلتني الى عالم سحري كله الوان و مرح و نغمات. هكذا كان شعوري ذلك اليوم. كم هي جميلة ميس جيهان بشعرها الأسود الطويل والروج الأحمر الذي كان يمثل أقصى درجات الأبهار في ذلك الوقت بالنسبة لي . هكذا رأيتها .. جميلة ورقيقة، فأحببتها وأنطبعت صورتها في ذهني كصورة جميلة لا يطولها الزمن. و لكن هل لو رأيتها الآن هل أعرفها ؟...... أشك!
فاتت كام سنة وأتنقلنا من مبني الأبتدائي إلى مبني الأعدادي. الحصة الآن حصة أحياء وسوف نذهب إلى المعمل . ننزل من الدور الثاني مقر فصلنا ونتحرك في طابورين: واحد للبنات والآخر للأولاد. ونتلكلأ قليلا لنضيع بعض الوقت ونثرثر بأي أحاديث ونضحك على أتفه الأسباب . وفي طريقنا نمر بمكتب وكيل المدرسة ونتنبه لذلك فيخف الهرج والمرج للحظات إلى أن نتخطى منطقة " الخطر".
اليوم حصة تشريح. سوف نقوم بتشريح أرنب . يقوم مستر "سيتي" مدرس الأحياء بذبح الأرنب ويقوم بشرح الخطوات التالية للتشريح ويطلب بعض المساعدة في تثبيت الأرنب على لوحة التشريح. " مين هايجي يثبت الأرنب بالمسامير؟ ويسود المعمل صمت تام ..... ولا ينطق أحد إلا الفلحوسة التي هي أنا "أنا يا أستاذ أنا" وأخطوا نحو المنصة الكبيرة الموضوع عليها الأرنب ويناولني الأستاذ الشاكوش الكبير والمسامير ... أحاول التغلب على الرهبة التي أنتابتني وأمسك رجل الأرنب الصغيرة التي كانت لا تزال تنبض ولم تفقد حرارتها بعد..... " لأ مش أدرة، مش ادرة " و أجري وأترك الأرنب والأستاذ وأجلس في مكاني وسط ضحك زملائي الجبناء. طب أنا حاولت اتغلب على خوفي .. انتو عملتوا أيه؟
النهارده بقى السبت عندنا أجازة . بس أحنا برضه مع بعض...... وفين بقى؟ ... في الأسماعيلية. عندنا رحلة . في الأتوبيس بنغني ونرقص والبنات وسط الولاد مش باينين من بعض بسبب تسريحة "البنك" اللي كانت كل البنات عملاها . ونصفق ونحن نقترب من أحد النوادي على قناة السويس. بعض المفاوضات بين مشرف الرحلة وموظف النادي . ننتظر بترقب ونحن نستعجل النزول . يدخل الأتوبيس الى النادي ويركن. نقفز من الاتوبيس ونجلس على الرصيف و يحلوا لنا التقاط الصور لحين قطع التذاكر ونتدافع لنظهر في الصورة..
وتمر سنوات أخرى ونصل الى الثانوية العامة . الوقت ده كان وقت جد . أكثر سنة ذاكرنا فيها وعملنا فيها جهد . ماهي بتحدد مستقلبنا. بس كنا كلنا بنحب أو أغلبنا علشان ما حدش يزعل. وكانت البنات مع أولاد أكبر. ماهو في المرحلة دي ما كنش يملى عنينا العيال بتوعنا دول . وكان وقت عبد الحليم وليالى الحلمية ونوتس لاندنج وفالكون كرست. و في المرحلة دي كانت تنازعنا أحاسيس الحنين ونحن نوشك أن ننهي مرحلة جمييييييييلة من حياتنا هي مرحلة المدرسة و في نفس الوقت مشاعر التطلع الى مرحلة الجامعة بما ترتبط به من حرية والدخول في مرحلة الشباب.
ونجحنا..... وتركنا المدرسة وطوينا صفحة جميلة من حياتنا وطفولتنا . هل تركناها في المدرسة؟ طبعاً لأ.
أخذنا الكثير منها في شخصياتنا من ذكريات وصداقات ومشاعر تقدير عميقة وحب لزملاءنا وأساتذتنا وحتى عمال المدرسة..
وأخطو على مضض على الممشى الطويل المؤدي الى باب الخروج وأنظرعلى يميني فتطالعني الملاعب الواسعة التي أفنينا أنفسنا فيها لعباً وجرياً وصريخاً. وأرفع رأسي إلى الفصول العلوية وأقول لنفسي وأنا أمسح دمعة صغيرة ابداً لن أنسى هذه الأيام. وقرب باب الخروج تقع عينى على الجرس المعدني الكبير ويرن في أذني صوت الأغنية يوم حصة الرسم في فصل ميس جيهان مدرسة الرسم الجميلة............. . " حادي بادي، حادي بادي، صوت جاي لنا هنا من الناحية دي ....... عمال بيغني وينادي....... سامعين صوته الحلو العالي....... بيقول تعالولي تعالولي."
أميرة المسيرى